الاثنين، 18 فبراير 2013

ومن الحظ ما يجعلك تزغرد

الجمعة، 4 مايو، 2012

ومن الحظ مايجعلك تزغرد
مرّت فترة طويلة وأنا لا أجد ما أكذبه عليكم. رغم أنني نشطتُ مؤخراً في انتخابات المجلس البلدي في قريتنا، وبلّطت البحر مرتين خلال هذه الفترة، إلّا أنني لا أجد شيئاً مهمّاً أتحدّث عنه،
أود أن أخرّف فقط.
لقد تفاقم صوت القرقعة في قفصي الصدري، ويدّعي طبيبي أن فئران عبّي ليست على بعضها هذه الأيام وهذا الأمر جدير بالقلق، فأنا أملك فريق فئران أولومبي يرتع داخل أضلاعي وبارع للغاية في التقاط الإشارات. نعم الإشارات، تلك الهمسات المتذبذبة من أعماق النفس، أو الومضات الهاتفة التي نتعثر بها أثناء التدحرج في غياهب الدنيا. والتي ترافقنا قبل الأشياء، وأثناء حدوثها، حتى آخر لحظة قبل أن تقع الفأس بالرأس، ليطرق الواحد منا رأسه في الحائط نادماً أو أن يهتزّ فرحاً فخوراً ليقول في كلتا الحالتين: «كنت حاسس».
وحتى لو لم أكن «حاسس» سأكذب عليكم وأقول إنّي «حاسس».
ما علينا، دعونا من هذه الهلوسات. قبل عام قررت أن أجيء لديني غدراً فأتمّم نصفه الثاني قبل الأول وأتزوج. تقدمت لفتاة جميلة العينين وطيبة القلب، وافق أهلها فخطبنا، والعقبى لأحبائكم.
وكونها أول مرة أخطب فيها، وخبرتي قليلة في هذا المجال، لست قادراً على تقييم الحال بشكل جيد!
لكنني، وفي خطوة رومنتيكية لتدعيم أواصر المحبة والغرام، قررت اصطحاب عروسي في رحلة نجتاز بها نهر الأردن في زورق مطاطي طولي الشكل، في مسار جميل بين أغصان القصب وشمس آذار اللذيذة.
بخبيش عليكم، في ذلك الصباح أقامت فئران عبّي سحجة «يا حلالي يا مالي» وهي تلطم على خديها راجية حضرة جنابي أن ألغي تلك الرحلة. فأمثالي تقف الرياح جانباً لتتحرى ما تشتهيه سفنهم، ثم تسير عكسها -يعني من الضروري أن أتعامل مع زفة الأحاسيس في داخلي بشكل جدي.
لكني كنت قد وعدت العروس، ويعلم المتزوجون فيكم كيف يهتم العريس أن يبدو عنترة الشداد وقيس الملوح حين يتعامل مع عروسه؛ خاصة حين تكون العلاقة لا تزال طازجة.
لم أفكر كثيراً، وقررت المضي في رحلتي ، والله يستر.
اتّجهنا شمالاً، بسرعة خجولة، وكانت تانيا صالح تغني عبر مسجل سيارتي «بلا ما نربيه، خليه يطلع حرامي»!
وأنا أتمايل طرباً لهذا الأسلوب المريح في التربية، وعروسي تبدي ملامح القلق على مستقبل أطفالها والتي أظنها قررت الزواج فقط من أجل الحصول عليهم.
على بعد قليل من الكيلومترات عن المكان المنشود، هزّ السيارة دويّ انفجار ترافق مع تصاعد كثيف للدخان والغبار. أنا تمسّكت في المقود وعروسي اختبأت أسفل المقعد حتى توقفت السيارة على هامش الطريق، ورغم أنّني كنت مرتعباً في تلك اللحظة إلّا أنّني بدأت أطمئن خطيبتي وأخبرتها وبكثير من الحمد لله أنها أجت سليمة.
نزلنا من السيارة، وبدأت أدور حولها في جولة تفحّصيّة وعيون مقبوضة ثاقبة لم تتمكن من إخفاء هلعي.
ركلت أحد الإطارات بقدمي، ثم نظرت إلى العروس، وأخبرتها أنّ كل هذه «الميمعة» ناتجة عن إطار حمّلته الدنيا ما لا يطيق، حتى ضاق بها ذرعاً وفقع! وقبل أن تفقع مرارة العروس بدأت في فعاليات تغيير العجل!
صحيح أنّني كنت أنوي أن أبدو «حنتريش» زماني في أول رحلة مع خطيبتي، إلّا أنّني لم أتوقع أن بداخل جسمي الهزيل كل هذا البأس، فعندما حاولت تفكيك أوّل برغي تمزق الحديد بين يدي، أما البرغي الثاني فقد حُلّ بسهولة، البرغي الثالث انكسر أيضاً، والرابع تماسك وصمد، وبكثير من «إن شاء الله» أقنعتها أن برغيّين يكفيان لتثبيت العجل!
لا أريد التحدث كثيراً عن تفاصيل البنشر، لكني وجدت عجل الاحتياط مبنشرْ أيضاً، مما أجبرني على حمله على أكتافي مسيرة نصف ساعة حتى بلغتُ محطة وقود نفخته فيها، وطوال النصف ساعة وفريق الفئران يسحج: مش قلنالك ترجع!
ما علينا..
كانت عروسي قد عقدت العزم على العودة والتنازل عن هذه الرحلة «المبيّنة من أوّلها»، لكني انتفضت مهللاً: يا باطل عالشباب! أنا لن أسمح لهذه العثرات أن تفسد علينا مشوارنا الأول سوية، ثم ذبّلت عيني وأخبرتها حجم الرومانسية التي تنتظرها في رحلة الزوارق.
المهم، اقتنعت رفيقة قلبي، وانطلقنا مجدداً. حصلنا على قارب أحمر اللون، يتسع لشخصين، ومجدافين صفراوين.. وقام أحد المنظمين بدفع قاربنا في مياه النهر!
توليت أنا مهمة التجديف، وكانت عروسي تراقب بابتسامة رقيقة شجيرات القصب الكثيفة على جانبيّ النهر وبعد دقائق من الإبحار، ولسبب ما، قررت العروس أن تقف عند مقدمة الزورق، وطبعاً محسوبكم تخيّل نفسه في سفينة التايتانيك وهبّ للقيام بتلك الحركة التي فعلها ليوناردو ديكابريو والتي تعرفونها جميعاً.
أكيد بتعرفوها كلكم .. (تخيلوني غامزكم)
وقبل أن أصل لعروسي، اصطدم الزورق بصخرة كانت تعترض مجرى المياه في منتصف النهر. ولا أراكم الله مكروهاً بحبيب، وقعت العروس في المياه الجارية بغزارة وأنا أتابع استغاثها الباكي بهلع شديد، وما أن دارت الأمور في مخي سلحفيّ التفكير كان الزورق قد ابتعد بعض الشيء عن مكان وقوعها.
والمخجل في القصة أنني أصبت في حيرة من أمري، هل أقفز للمياه لإنقاذها، أم أبقى داخل القارب إلى أن يستقر في مكان ما، لكنّي لست بهذا القدر من النذالة، فقررت القفز، خاصة أنها فرصتي كي أذكّرها عند كلّ طوشة زوجيّة أنّني من أنقذ حياتها ذات مرّة.
تهيأت للقفز، ورفعت ذراعي على شكل سهم وانطلقت كدولفين مغوار مستعد للمجازفة في حياته من أجل حبيبة قلبه، لكن حصل ما لم أحسب له حساباً؛ فقد كانت المياه ضحلة، يصل عمقها لأقل من متر واحد، في حين أن طولي الفارع قد تجاوز المتر بكثير.
ارتطم أنفي وجبهتي العريضة في قعر النهر، وأصبت في دوار لولوبي شنيع.. ورأيت. مرت بعض الثواني حتى استجمعت قواي ووقفت مجدداً، ويلي عروسي التي تصرخ خوفاً وويلي أنفي النازف وناصيتي المنتفخة.
حاولت الاقتراب نحوها، لكن التيار الجارف منعني من ذلك، كلما قفزت قليلاً للأمام، ردّتني المياه للخلف، حتى انتبه أحد المنقذين وهرع في زورقه نحو العروس، ورفعها لقاربه، وبدؤوا في الاقتراب نحوي لإنقاذي أنا الآخر.
وشو بدّي أحكي تأحكي!
حين وصلني زورق الإنقاذ تلقيته بصدري فأوقعني أرضاً وحشرني بين قعر النهر، وأسفل القارب، والمنقذ الغبيّ يتدلى من زورقه محاولاً البحث عني، ومحسوبكم يختنق أسفل النهر.. الأوكسجين بدأ ينفذ وشريط حياتي بدأ في عرض أسماء المنتج والمخرج كي يبدأ العرض، ثم انتقل للرفيق الأعلى، وفجأة ولسبب لا أجد له تفسيراً سوى أن أيّامي لم تنفذ بعد امتدت كفّ المنقذ وأمسك في كتفي وانتشلني للأعلى، ثم اندفع الهواء بقوة نحو رئتي وبدأت أستعيد وعيي!
الصراحة كل ما حصل لا يساوي اللحظة التي فتحت فيها عينيّ ووجدت عروسي تنظر إليّ وملامح الخوف والفزع قد بخّرت دموعها، وعشقت ما تبقى من عمري فقط لأجل هذه الرقيقة التي لم تذنب حتى يموت خطيبها غرقاً أمام عينيها الجميلتين.
ما علينا، صحصحت قليلاً، وأخذنا المنقذ إلى ضفة النهر وتركنا بعد أن تأكد أنّني على ما يرام.
ورغم جراحي لم نجد سوى الانفجار من الضحك على حظنا المعوّق، هي تخبرني أنها خافت عليّ، وأنا أخبرها أنّي خفت عليها، مع القليل من احمرار الوجنتين وتسبيل العينين!
ومن داخل أضلاعي يهتف أحد الفئران:
يا أخونا، عبرلها عن خوفك بعدين، حالياً فكّر معنا كيف بدنا نروح عالبيت، المحفظة والموبايل والكاميرا ومفتاح السيارة سقطت في النهر!
وما أن تفقدت الموضوع وتأكدت أنّ ادعاءات فأري صحيحة.. طلبت من عروسي أن تزغرد، حلالنا ومالنا سقطوا في نهر الأردن، وأن تستمر في الزغاريد، مهو شر البلية ما يجعل الواحد يزغرد.
كان نهاية المسار يبعد عنّا ما يقارب الثماني كيلومترات، ولا سبيل للوصول إليه إلا باستخدام قارب آخر- مهو محسوبكم بركبش إلا في المسار الطويل أبو الساعتين.
في البداية رفضت العروس فكرة العودة إلى موضوع الزوارق هذا، ولكنّني وبكثير من الحمد لله أقنعتها أنها أجت سليمة وعلينا متابعة المسيرة.
كان التعب قد بلغ منا مبلغاً، فاعتمدنا على تيار المياه لإيصالنا إلى آخر المسار.
لم أفكر كثيراً قبل أن أستعير هاتف أحدهم وأتّصل بأحد الأصدقاء كي يأتي لاصطحابنا إلى البيت، والطريف أنّ صديقي هذا وبعد أن أغلق الشارع عدة مرات من الضحك؛ حين أخبرته ما حصل قرر أن يصفّي مزاجنا بأغنية على ذوقه، ويا لدهشتي، فقد كان وديع الصافي يشدو: عندك بحرية يا ريس، سمر وشرقية يا ريس.