الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

اذكر الحاج صبحي قبل اعوام حين تنازل عن فنجان القهوة ساده وطلب من ابي ان يعدّ له فنجان اسبرسو تعلوه رغوة صفراء بلون كوفيته. نادى : "هات تا نجربها ياخي" ولم يستطع صوته الثخين ان يخفي ارتباكه من هذه المغامرة الإنقلابية ومن نظرات ندمائه المستغربين. واذكر ابي حين سأل الحاج صبحي قبل ان يقدم له الحساب: كيف كانت؟ فاجاب: "ثقيلة ومليحة، بس فش مثل العربية" لم يغيّر الحاج كوفيته الصفراء وعقاله المجدول لكنه منذ ذلك اليوم اصبح لايشرب الا الإسبرسو.

تفوح من هذا المقهى الصغير رائحة القهوة المطحونة حديثًا ورائحة دخان السجائر المتغلغل في جدرانها واخشاب طاولاتها وملابس روّادها ورائحة عَرَق الرجال الكادحين الذين جعلوا من هذا المكان لحظة يتباطؤ بها الزمن فتريحهم قليلًا من الهرولة على دولاب الأيام . دارت الدنيا وتغيّر العالم وفقد التلفزيون الذي رقد في الزاوية لأعوام طويلة صندوقه المهيب واصبح قطعة زجاة دقيقة معلقة على الحائط، واصبح والدي الطيب عجوزًا، ولم يعد الحاج صبحي قادرًا على السير والخروج من المنزل واستلمتُ مكان ابي خلف ماكينة صنع القهوة التي تغيرت هي الأخرى. كثرت المقاهي في قريتنا لكلٍّ منها طابع مختلف الا انها جميعا تشابهت في ان روّادها من الرجال فقط! ...

في احد صباحات ايلول الرمادية كان ضجيج الزبائن يزاحم صوت مذيعة نشرة الأخبار وكانت بخار الماء المضغوط في الإبريق المعدنيّ يحوّم الحليب مُصدرا صوت تنفيس حاد يشقّ اصوات الجميع. وكان سليم يرفع صوته محتجّا على رغوة الحليب الثخينة التي تعلو فنجانه وانا احاول ان اشرحَ لهُ انّها ليست انتقاصًا من حقه بالحليب، انما مركب اساسي للكابوتشينو، وفجأة هبط علينا هدوء حاد يشبه ذلك الصمت الذي يعم حين يقفز امّان الكهرباء، ذهبت عيوني نحو اللامبة وجميع الزبائن توجهت عيونهم نحو الباب، فلحقت عيوني بعيونهم واذا بها فتاة في اوائل العشرينات تتقدم نحوي بخطى واثقة يشقّ عطرها خيوط الدخّان ويمزق سطوة الروتين الرجالي المتفشي. كانت كلما مرت عن طاولة تساقط جالسوها، بعضهم انهارت فقرات رقبته فسقط رأسه للخلف حتى تلقاه الجدار، وآخرين كانت رقبته اشد فاستدارت برأسه متابعة تفاصيل الزبونة وآخرين آثروا ان تبدو الأمور طبيعية فردعتهم ليبراليتهم المزعومة سوى عن اختلاس بعض النظرات والهمسات. انا اردت ان ابدو طبيعيًا كجزء من الخدمة الرفيعة التي قد تُكسبني زبونة جديدة. حين وصلتْ طاولتي التي اعدّ عليها القهوة كان ضحايا طقطقات كعبها قد بدؤوا يلملمون شظاياهم التي تهشمت، وكنت ابلع ريقي كي يخرج صوتي طبيعيا فلا ينفضح ارتباكي، الا ان جدران حلقي التصقت ببعضها فخرجت كلمة "تفضلي" بصوت مسخسخ مخنوق. لم تنتظر زبونتي الكريمة حتى ارتب اوتاري الصوتية من جديد، فقالت: اثنين كابوتشينو تيك اويه عمّو!

"نعم؟! شو عموّ هاي؟!" خاطبتُ ذاتي. هل شعرتْ بارتباكي فارادت ان تضرب حاجزًا بيننا وتحطم كل طموحاتي الذكورية؟! ام ان جبهتي العريضة جعلتني ابدو عمّو؟! يا للهول!

ذهبت لماكينة القهوة لاعداد الكابوتشينو وكلمة عمّو ترن في اذني، لكني تذكرت مقطعًا في "يوتيوب" تُخبر به امرأة زوجها العجوز ان كلمة عمو اختصارًا: "لعمى يعميك ول عليك" فافلتت مني ابتسامة تمردت على شفتي المقبوضتان عنوةً. 

بدأتُ بصبّ الحليب على القهوة فنادت عليّ زبونتي وقالت بصوت مرتفع قليلا انها تريد الكابوتشينو مع رغوة، فنظرت مباشرة لسليم نظرة تعني : شايف الناس اللي بتفهم؟

اخذتْ قهوتها وخرجت وكان سؤال المليون لذلك الصباح من تكون تلك الفتاة؟! احدهم قال انها ليست من القرية وآخر قال انها على دم فلان ابن فلان، واخر قال ان سيارتها كسيارة علان ابن فلان ربما تكون زوجته. انقضى ذلك اليوم على خير وجاء الصباح التالي، وتكرر المشهد مرة اخرى، ربما كانت طقطقات كعبها اخف وطئا لكن الفضول من تكون كان يتفاقم ويزداد. ثم تكرر حضورها لأسبوع ولم يعرف احد من تكون وصارت تصطحب صديقتها معها احيانا، واحيانا اخرى تحضر مع صديقتين حتى انهن في احدى المرات جلسن على الكراسي العالية المقابلة لماكينة القهوة قريبا من سليم الذي بدت ملامح الارتباك واضحة على محياه لكنه تجاوز الموضوع سريعًا وعاد للإنشغال في هاتفه النقال. تجرأتُ يومها وسالتهنّ عن اسمائهن، واخبرتهن باسمي واصبح حضورهن وذهابهن جزءا من المشهد الصباحي ولم يعد احد يكترث بمعرفة هويتهن حتى انهم لم يعودوا ينتبهون لحضورهن اصلا. حقيقة ان الكابوتشينو قادرًا على تغيير البشر.