الأحد، 6 فبراير 2011

البسطة اول محطة


نشرت في العدد صفر من مجلة نوافذ


sالقصة وما فيها اني احب الكراتين
نعم الكراتين والورق على اشكاله
ابسط كرتونة، امنحها بعضا من الحبر ، فتزيل طبقات من شحبار الفحم المترسب حول اوردتي.
كما ان الورق مستعد دائما لسماعي ، او على الأقل، غير قادر على الاعتراض ، ولا يذكرني بالطالعة والنازلة كم هو حنون وواسع الصدر اذ تحمل تخاريفي، و لا يلعب معي دور الطبيب النفسي ، ويمارس عليّ نظريات فرويد وطاليس وابو قراط ، ولن يحلف بأغلظ الأيمان ان سري في بير ، ثم يفضحه لأول عابر سبيل متعطش لنشاطات القيل والقال.
في طفولتي الأولى ، عشقت كرتونة بسكويت فارغة كانت تشاركني غرفتي الصغيرة ، كنت اسجل اسراري على جدرانها البنية ، واخبئ داخلها اشيائي الحبيبة الخاصة ، وكنت شديد الحرص على ان تكون لي وحدي والا يمسها احد غيري، كانت عالمي الجميل ودنياي الطفولية البريئة،
عندما كبرت قليلا ازدادت مساحات التحجر والقسوة في قلبي، وفي يوم من ايام التقوى التي تصيب المراهقين ، وتكون اكثر جهلا من جاهلية ابو جهل، اخبرنا احد الاساتذة الأزليين في الاعدادية ، ان الحب حرام ، شرعا وعرفا ، وان العشاق سيعلّقون من اعضائهم التناسلية على اعمدة الكهرباء في شوارع جهنم يوم القيامة .
يومها جفت تقاطيع وجهي خوفا من هذا العقاب الاليم، وفي حالة هلع طغت على قدراتي العقلية ، اقمت طقوسا تشبه مراسم الحج عند الهندوس ، واشعلت النار في كرتونتي الغالية ، كان صراخ صوتي محبوسا في حنجرتي المبوحة وانا اقف فوق الحريق اتابع تهافت الرماد، و كانت الدموع تذوب دخان ذكرياتي المترسب على وجنتي ، ثم تهوي عائدة الى فرن الحنين.
في تلك اللحظة احترق داخل قلبي مركز الاهتزاز شوقا لصديقي الحبر المتغلغل في نسيج الاوراق ، ومنذ ذاك اليوم ، التقيت الكثير من الكراتين البنية والبيضاء والصفراء ، لكني لم اكتب على اي منها، فانا لم اجد اي كرتونة تحمل في طياتها اسرار طفولتي .
كثرت سنين عمري، وظل الوضع على هذه الحال، حتى انتقاني احد رجال الأمن من بين الاف المارة، وقام بتفتيشي بدقة مريبة ومزعجة ، وجعلني فرجة للرايح والجاي .
لم تكن تلك المره الاولى التي تفتشني بها الشرطة بهذا الشكل الاستفزازي ، لكنها كانت القطرة الاخيرة التي سقطت في كأس قلبي ، وفقعت معي وانفجرت داخلي نافورة حبر طرطشت باكورة حممها على قصاصة ورق كانت معي صدفة في ذلك الحين ، فنتج اثر الانفجار نسيج متناسق من الكلام الغاضب ، مع الكثير من الكلمات العامية والفصحى والشتائم ، لم يكن نصا مهما على الصعيد الادبي واللغوي ، لكنه تمكن من احتمال جام غضبي واشعرني بذلك الارتياح اياه ، الذي كانت تفعله كرتونتي الغالية.
طويت الورقة وحشوتها في احدى جيوبي .
بعد ايام قررت نشر هذا النص على جداري في الفيسبوك ، كشكل من اشكال الاحتجاج ، يعني بدلا من اشعال عجل سيارة داخل اضلاعي والاحتراق غيظا !
بحثت عن البنطلون فلم اجد له اي اثر ، سألت الوالدة ، فضربت كف بكف ، و تشك تشكت قليلا ، وقالت بنطلونك انغسل وتلحلح وانعصر ، والان يمر بعملية تجفيف على حبل الغسيل !
هرولت نحوه ، واخرجت الورقة المبللة بدلع ورفق ، وبدأت بفتحها رويدا رويدا كما يدلع رجال الاثار مومياءاتهم الحبيبة.
كان الحبر قد تحلل قليلا وصبغ بياض الورقة الناصع بلون نيلي شاعري ، لكن مسحوق الغسيل الذي تستعملة الوالدة ليس بالقوة الكافية لتحليل المداد المتشبث في خيوط الورقة، فقد كتبت ما كتبت بغُل، وسقيت الورقة ما يكفيها من الحبر النازف من غضبي المستعر.
اعدت ترميم الحروف الغارقة ، ونشرتها في الموقع ورزقي ع الله.
كان هنالك الكثير من ال "لايك" ، والكثير من الردود التي تراوحت بين " نغنوش" و "حلو" و " شيق" كما ان احدهم اراد ان يمزح معي وقال "خرجك الله لا يقيمك" وهكذا.
لكن اكثر الردود اثارة للانتباه ، ما كتبته صديقة فيسبوكية تعمل معلمة للغة العربية ، والتي استشاطت غضبا وزمجرت وحمّرت وقالت ان هرطقاتي ما هي الا عملية تخريبية لجمال اللغة العربية واني بهذه التخاريف اساهم في تدني مستويات الادب الفصيح ، ثم شتمت الزمان واخوات الزمان الذي صار يُسمح به لم هب ودب من النشر ، وعبرت عن شوقها لزمان المتنبي وابو فراس الحمداني ، ثم وضعت ثلاث نقاط وتابعت وقالت: انه سياتي يوم تكتب به العربية بالحرف اللاتيني من تحت راسي ورأس امثالي من المتسلقين على جدران الادب.
انا حقيقة لم اتسلق في حياتي على اي جدار ، كما لا اعرف ما تعنيه كلمة " هرطقاتي" ، لكن تعليقها كان قويا للغاية ، جعلني اشعر بفداحة عملتي، وحمدت الله ان هذه المعلمة ليست زوجتي، والا لملمت اغراضها وزعلت عند دار ابوها ، او بالاحرى حمّلتني اغراضي ونيّمتني بالشارع ، فامثال هذه الوفية ، يتعاملون مع قواعد اللغة التقليدية على انهم من باقي اهاليهم.
تعليق اخر ، كتبه احد الكتاب المحليين الذين احترمهم ، والذي وضعت اسمه على النص، طامعا ان يعبرني بـ شقفة "لايك" أنعش بها مواهبي الغضة ، فذهلت حين كتب تعليق بدأه بحضرة الكاتب محمد مجادلة ، وأخبرني اني اكتب بطريقة مثيرة للاهتمام ، وان علي الاستمرار!
بيني وبينكم، ما ان رأيت انه نعتني " بالكاتب" ، حتى انتشرت مؤخرتي على أنحاء الكرسي ، وجعصت بكثير من الغرور، ووضعت رجلي واحدة على الاخرى ، وتحولت لهجتي معه من الهاوي المعجب، الى الكاتب الزميل ، وطمأنته شخصيا ، وأوصيته ان يطمئن الاوساط الثقاقية، اني مستمر رغم حقد الحاقدين.
وهكذا ، بدأت اكتب عني ، وعن نهفات تحصل معي ومع اناس حولي ، وانشرها هنا وهناك ، حتى اصبح عدد اصدقائي الفيسبوكيين ، مش عارف كم مائة صديق ، الكثير من الادباء والفنانين والقراء، الذين تشرفت بمعرفتهم وتعلمت كثيرا من تجربتهم.
وكان احدهم ، الكاتب معن سمارة ، الذي التقيته في احدى مقاهي رام الله الشعبية ، كان شابا له عيون ثاقبة ، وصراحة حادة النظرات ، تحدثنا بعض الكلمات التي تمكنت بجهد كبير من اقتحام ضجيج المكان ،ثم تبادل معن وصديقنا المشترك انس احمد الابتسامات وانا بينهما انتقل بنظراتي على الجهتين كاني اتابع مباراة تنس ارضي، ولا افهم ما يحصل.
بعد يومين رن الموبايل ، هاتقا بتلقي رسالة قصيرة ، كانت من معن سمارة ، فيها رابط طويل لموقع جريدة الأيام ، وذيّل الرسالة ان هنالك مفاجئة بانتظاري ، ومحسوبكم عاشق متيم بالمفاجئات ، نهضت عن فرشتي وهرولت نحو الحاسوب،وفي الطريق تصادم اصبع رجلي الصغير في حلق الباب وطرق الالم الشديد في مخي فالتفت والدي الحبييب وقال: مالك مستعجل عالصبح ، اقتربت منه واخبرته الموضوع ، فعم صمت مريب في المنزل ، وأطرق أبي وفكّر ، ثم نظر ، فعبس وبسر ، وقال: يا ولدي راح يخوزقوك !
ابتسمت وقبلت صلعته البهية ، وتابعت المسير قفزا على رجل واحدة ، وفتحت الرابط..
كان العنوان " بسطة كتابة"
مقدمة جميلة للموضوع ، واحدى نصوصي، ونص اخر للصديق الكاتب انس احمد.
لم اتمكن من كبح ابتسامتي العريضة التي تمددت بين شحمتي اذني ، لكن سرعان ما تحول الفرح لرهبة المسؤولية المترتبة عن التورط اكثر في دهاليز الكتابة، لقد صارت اللعبة اكبر، الان لدي فرصة كي يصبح صوتي اعلى واخطر ، كي اساهم في انقاذنا من الانقراض ، ومنع الوحل من تولي القيادة .
كي يستمر الحوار بين الغيوم والسنونو، وسمك البحر والاوراق .
كي لا تجف الانوثة ، والجداول ، وعرق الضحى.
كي يظل لليمون مكانا في حارتنا ، ولا يعم الرماد ارجاء المعمورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق